فصل: فصل في متفرقات من سيرته صلى الله عليه وسلم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.موعظة:

عِبَادَ اللهِ من أحكام ديننا ووحي قرآننا وتعالى م نبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم المقررة الثابتة أنه لا فضل لعرَبِّي علي عجمي ولا لأبيض علي أسود ولا لسيد علي مسود ولا لملك علي مملوك ولا صعلوك إلا بالتقوي.
فالمعيار الصحيح والميزان العدل الحق للتفاضل بين الأفراد والجماعات والترجيح بين مختلف الطوائف والطبقات والهيئات ما جَاءَ عن رب الأرض والسماوات: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ولم يقل سُبْحَانَهُ وتعالى: إن الكريم من عظم جاهه أو كثر ماله أو كثر رجاله واستسلم له النَّاس طائعين ومكرهين، بل الكريم عنده من اتصف بالتقوي.
فالعاقل من راقب الله في السِّرّ والنجوي وعامل النَّاس بالمساواة ولم يراعِ الرتب والدرجات والشرف والسيادات وسوي بينهم وفق تسوية الله لهُمْ في الواجبات والحدود والعبادات.
فتأمل تجد في الموقف بالصَّلاة والحج وكيف يتساوي فيه الامير والمأمور والعَظِيم والحقير والغني والفقير والصعلوك والوزير كلهم بلسان واحد ولهجة صادقة يؤدون العبادة لمولاهم العلي الكبير وهم معترفون بشده الافتقار إليه والعجز والتقصير فتلك هِيَ المساواة كُلّ المساواة التي جَاءَ بها الإسلام ودعي إليها النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ومكنها في نفوس أصحابه أي تمكين.
كما ستري ما سنذكره إن شاء الله من عدلهم وإنصافهم وحبهم للمساواة وإيثارهم العدل في الاحكام وتأمل ما في هَذَا الْحَدِيث الشريف وما قاله المصطفي صلى الله عليه وسلم وتأمل ما بعده مِمَّا سيأتيك من سيرته اهـ.
أخرَجَ ابن عساكر عن عَبْد اللهِ بن حدرد الأسلمي رَضِيَ اللهُ عنهُ أنه كَانَ ليهودي عَلَيْهِ أربعة دراهم فاستعدي عَلَيْهِ فَقَالَ: يا مُحَمَّد إن لي علي هَذَا أربعة دراهم وقَدْ غلبني عَلَيْهَا، قال: أعطه حقه، قال: والَّذِي بعثك بالحق ما أقدر عَلَيْهَا، قال: أعطه حقه، قال: والَّذِي نفسي بيده ما أقدر عَلَيْهَا قَدْ أخبرته أنك تبعثنا إلى خيبر فأرجو أن تغنمنا شيئاً فأرجع فأقضيه.
قال: أعطه حقه، وكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال ثلاثاً لم يراجع فخرج ابن أبي حدرد إلى السوق وعلي رأسه عصابة وَهُوَ متزر ببردة فنزع العمامة فاتزر بها ونزع البرده فَقَالَ: اشتر مني هذه البردة، فباعها منه بأربعة دراهم فمرت عجوز فقَالَتْ: ما لك يا صَاحِب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرها فقَالَتْ: ها دونك هَذَا البرد لبرد عَلَيْهَا طرحته عَلَيْهِ.
وعن أبي سعيد الخدري قال: جَاءَ أعرابي إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يتقاضاه ديناً كَانَ عَلَيْهِ فاشتد عَلَيْهِ حتي قال: أحرج عَلَيْكَ إلا قضيتني فانتهره أصحابه فَقَالُوا: ويحك تدري من تكلم، فَقَالَ: إني أطلب حقي، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:
هلا مَعَ صَاحِب الحق كنتم ثُمَّ أرسل إلى خولة بنت قيس فَقَالَ لها: إن كَانَ عندك تمر فأقرضينا حتي يأتينا تمر فنقضيك فقَالَتْ: نعم بأبي أَنْتَ وأمي يَا رَسُولَ اللهِ، فأقرضته فقضي الأعرابي وأطعمه.
فَقَالَ: أوفيت أوفي الله لك، فقال: أولئك خيار النَّاس إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع أخرجه ابن ماجة ورواه البزار من حديث عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عنهَا مختصراً.
وأخرَجَ الطبراني عن خولة بنت قيس امرأة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما قَالَتْ: كَانَ علي رسول الله وسق من تمر لرجل من بني ساعدة فأتاه يقتضيه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار أن يقضيه فقضاه تمراً دون تمره فأبي أن يقبل فَقَالَ: أترد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: نعم ومن أحق بالعدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتحلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدموعه، ثُمَّ قال: «صدق ومن أحق بالعدل مني لا قدَّسَ الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها ولا يتعتعه».
ثُمَّ قال: «يا خولة عديه واقضيه فإنه لَيْسَ من غريم يخرج من عِنْدَ غريمه راضياً إلا صلت عَلَيْهِ دواب الأرض ونون البحار ولَيْسَ من عبد يلوي غريمه وَهُوَ يجد إلا كتب الله عَلَيْهِ في كُلّ يوم وليلة إثماً».
ولما بلغ بنيان قريش موضع الركن اختصم القبائل كُلّ قبيلة تريد أن ترفع الركن إلى موضعه وكادوا يقتتلون علي ذَلِكَ فَقَالَ لهُمْ أبو أمية ابن المغيرة بن عَبْد اللهِ بن عمرو بن مخزوم وكَانَ شريفاً مطاعاً: اجعلوا الحكم بينكم لأول من يدخل من باب الصفا فقبلوا ذَلِكَ منه وكَانَ أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رأوه قَالُوا: الأمِينُ أقبل وكَانَ يسمي في الجاهلية الأمِين لأمانته وصدقه فَقَالُوا جميعاً رضينا بحكمه.
ثُمَّ قصوا عَلَيْهِ قصتهم فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام: «هَلُمَّ إلي ثوباً»، فأتي به فوضع الركن فيه يعني الحجر الأسود ثُمَّ قال: «لتأخذ كُلّ قبيلة بطرف من هَذَا الثوب» فحمله من أربعة أطراف أربعة من وجوه القبائل وأشرافها وزعمائها ورفعوه إلى محاذاة موضع الحجر.
فتناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثوب ووضعه بيده الشريفة في محله فكَانَ الأشراف والزعماء خدماً له صلى الله عليه وسلم وفي ذَلِكَ يَقُولُ هبيرة بن وهب المخزومي:
تَشَاجَرَتِ الأحْيَاءُ فِي فَضْلِ خُطَّةٍ ** جَرَتْ طَيْرُهُمْ بالنَّحْسِ مِنْ بَعْدِ أَسْعَدِ

تَرَامَوْا بِهَا بالغَضِّ بَعْدَ مَوَدَّةٍ ** وَأَوْقَدَ نَاراً بَيْنَهُمْ شَرُّ مُوْقِدِ

فَلَمَّا رَأَيْنَا الأمر قَدْ حَانَ جَدُّهُ ** وَلم يَبْق شَيْءٌ غَيْرَ سَلِ المُهَنَّدِ

رَضِيْنَا وَقُلْنَا العَدْلُ أَوّلُ طَالِعٍ ** يَجِيءُ مِنَ البَطْحَاءِ مِنْ غَيْرِ مَوْعِدِ

فَفَاجَأنَا هَذَا الأمِيْنُ مُحَمَّدٌ ** فَقُلْنَا رَضِيْنَا بالأمِيْنِ مُحَمَّد

بِخَيْرِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا أسْوَ شِيْمَةٍ ** وَفِي الْيَوْمِ مَعَ مَا يُحْدِثُ اللهُ فِي غَدِ

فَجَاءَ بأَمْرٍ لم يَرَ النَّاسُ مِثْلَهُ ** أَعَمَّ وأَرْضَى فِي العَوَاقِبِ والبَدِيْ

أَخَذْنَا بأَطْرَافِ الرِّدَاءِ وكُلُّنَا ** لَهُ حِصَّةٌ مِنْ رَفْعِهِ قَبْضَةُ اليَدِ

فَقَالَ ارْفَعُوْا حَتَّى إِذَا مَا عَلَتْ بِهِ ** أكُفُّهُمُ وَالَى بِهِ خَيْرُ مُسْنِدِ

وَكُلُّ رَضِيْنَا فِعْلَهُ وَصَنِيْعَهُ ** فَأَعْظِمْ بِهِ مِنْ رَأْيٍ هَادٍ وَمُهْتَدِ

وتِلْكَ يَدٌ مِنْهُ عَلَيْنَا عَظِيْمَةٌ ** يَرُوْحُ بِهَا هَذَا الزَّمَانُ وَيَغْتَدِيْ

والأربعة الآخذون بطرف الرداء هم: عتبة بن ربيعة بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزي بن قصي، وأبو حذيفة ابن المغيرة بن عمرو بن مخزوم بن يقظة، وقيس بن عدي السهمي، وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم. ومِمَّا ينطبق علي الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ما يلي:
فمَا غَابَ عن حِلْمٍ وَلاَ شَهِدَ الخِنَا ** وَلاَ اسْتَعْذَبَ العَوْرَاءَ يَوْماً فَقَالَهَا

يَدُوْمُ عَلَى خَيْرِ الخِلالِ ويَتَّقِيْ ** تَصَرُّمَهَا مِنْ شِيْمَةٍ وَانْتِقَالُهَا

وَتَفْضُلُ أيْمَانَ الرِجَالِ شِمَالُهُ ** كَمَا فَضَلَتْ يُمْنَى يَدْيِهِ شِمَالهَا

وَيَبْتَذِلُ النَّفْسَ المَصُوْنَةَ نَفْسُهُ ** إِذَا مَا رَأَى حَقاً عَلَيْهِ ابْتِذَالُهَا

.فصل في متفرقات من سيرته صلى الله عليه وسلم:

وَقَالَ شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ: وسيرة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من آياته وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته وأمته من آياته وكرامَات صالحي أمته من آياته.
وَذَلِكَ يظهر بتدبر سيرته من ولد إلى أن بعث ومن حين بعث إلى أن مَاتَ وبتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله فإنه كَانَ من أشرف أَهْل الأرض نسباً من صميم سلالة إبراهيم الَّذِي جعل الله في ذريته النبوة واْلكِتَاب.
فلم يأت نبي من بعد إبراهيم إلا من ذريته وجعل له ابنين إسماعيل وإسحاق وذكر في التوراة هَذَا وهَذَا وبشر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيل.
ولم يكن في ولد إسماعيل من ظهر فيما بشرت به النبوات غيره ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث فيهم رسولاً مِنْهُمْ ثُمَّ هُوَ من قريش صفوة بني إبراهيم من بني هاشم صفوة قريش.
ومن مَكَّة أم القري وبلده البيت الَّذِي بناه إبراهيم ودعا النَّاس إلى حجه، ولم يزل محجوجاً من عهد إبراهيم مذكوراً في كتب الأنبياء بأحسن وصف، وكَانَ من أكمل النَّاس تربية ونشأة لم يزل معروفاً بالصدق والبر والعدل ومكارم الأخلاق وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم.
مشهوداً له بذَلِكَ عِنْدَ جَمِيع من يعرفه قبل النبوة وممن آمن به وكفر بعد النبوة، لا يعرف له شَيْء يعاب به لا في أقواله ولا في أفعاله ولا في أخلاقه ولا جربت عَلَيْهِ كذبة قط ولا ظلم ولا فاحشة.
وكَانَ خلقه وصورته من أكمل الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة علي كماله، وكَانَ أمياً من قوم أميين لا يعرف لا هُوَ ولا هم ما يعرفه أَهْل اْلكِتَاب: التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ.
ولم يقَرَأَ من علوم النَّاس ولا جالس أهلها ولم يدع بنبوة إلى أن أكمل الله له أربعين سنة فأتي بأمر هُوَ أعجب الأمور وأعظمها وبكلام لم يسمَعَ الأولون والآخرون بنظيره.
وأخبر بأمر لم يكن في بلده ولا في قومه من يعرف مثله ولم يعرف قبله ولا بعده، لا في مصر من الأمصار ولا في عصر من الأعصار من أتي بمثل ما أتي به ولا من ظهر كظهوره.
ولا من أتي من العجائب والآيات بمثل ما أتي به ولا من دعا إلى شريعة أكمل من شريعته، ولا من ظهر دينه علي الأديان كُلّهَا بالعلم والحجة وباليد والقوة كظهوره.
ثُمَّ إنه اتبعه اتباع الأنبياء وهم الضعفاء من النَّاس وكذبه أَهْل الرئاسة وعادوه وسعوا في هلاكه وهلاك من تبعه بكل الطرق، كما كَانَ الكفار يفعلون مَعَ الأنبياء وأتباعهم.
والَّذِينَ اتبعوه لم يتبعوه لرغبة ولا لرهبة، فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم ولا جهات يوليهم إياها ولا كَانَ له سيف بل كَانَ السيف والجاه والْمَال مَعَ أعدائه، وقَدْ آذوا أتباعه بأنواع الأذي وهم صابرون محتسبون لا يرتدون عن دينهم لما خالطت قُلُوبهمْ حلاوة الإيمان والمعرفة.
وكانت مَكَّة يحجها الْعَرَب من عهد إبراهيم فتجتمَعَ في الموسم قبائل الْعَرَب فيخرج إليهم يبلغهم الرسالة ويدعوهم إلى الله صابراً علي ما يلقاه من تكذيب المكذب وجفاء الجافي وإعراض المعرض إلى أن اجتمَعَ بأَهْل يثرب وكَانُوا جيران اليهود قَدْ سمعوا أخباره مِنْهُمْ وعرفوه.
فَلَمَّا دعاهم علموا أنه النَّبِيّ المنتظر الَّذِي تخبرهم به اليهود وكَانُوا قَدْ سمعوا من أخباره ما عرفوا به مكانته، فإن أمره كَانَ قَدْ انتشر وظهر في بضع عشرة سنة فآمنوا به وتابعوه علي هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم وعلي الجهاد معه فهاجر هُوَ ومن اتبعه إلى الْمَدِينَة وبها المهاجرون والأنصار لَيْسَ فيهم من آمن برغبة دنيوية ولا برهبة إلا قليلاً من الأنصار أسلموا في الظاهر ثُمَّ حسن إسلام بَعْضهمْ ثُمَّ أذن له في الجهاد ثُمَّ أمر به.
ولم يزل قائماً بأمر الله علي أكمل طريقة وأتمها من الصدق والعدل والوفاء لا يحفظ عَلَيْهِ كذبة واحدة ولا ظلم لأحد ولا غدر بأحد، بل كَانَ أصدق النَّاس وأعدلهم وأبرهم وأوفاهم بالعهد مَعَ اختلاف الأحوال عَلَيْهِ من حرب وسلم وأمن وخوف وغني وفقر وقله وكثرة وظهوره علي الْعَدُوّ تَارة وظهور الْعَدُوّ عَلَيْهِ تَارة.
وهو علي ذَلِكَ كله ملازم لأكمل الطرق وأتمها حتي ظهرت الدعوة في جَمِيع أرض الْعَرَب التي كانت مملوءة من عبادة الأوثان ومن أخبار الكهان وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق وسفك الدِّمَاء المحرمة وقطيعة الأرحام لا يعرفون آخرةً ولا معاداً.
فصاروا أعلم أَهْل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض وآثار غيرهم يعرف العقلاء فرق ما بين الأمرين وَهُوَ صلى الله عليه وسلم مَعَ ظهور أمره وطاعة الخلق له وتقديمهم له علي الأنفس والأموال مَاتَ ولم يخلف درهماً ولا ديناراً ولا متاعاً ولا دابةً إلا بغلته وسلاحه ودرعه مرهونة عِنْدَ يهودي علي ثلاثين وسقاً من شعير ابتاعها لأهله.
وكَانَ بيده عقار ينفق منه علي أهله والباقي يصرفه في مصالح المُسْلِمِيْنَ فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته منه شيئاً وَهُوَ في كُلّ وَقْت يظهر علي يديه من الآيات وفنون الكرامَاتِ ما يطول وصفه.
ويخبرهم بما كَانَ وما يكون ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن الْمُنْكَر ويحل لهُمْ الطيبات ويحرم عَلَيْهمْ الخبائث ويشرع الشريعة شيئاً بعد شيء.
أكمل الله دينه الَّذِي بعث به وجاءت شريعته أكمل شريعة لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهي عنهُ.
لم يأمر بشَيءٍ فقيل: ليته لم يأمر به ولا نهي عن شَيْء فقيل: ليته لم ينه عنهُ وأحل الطيبات لم يحرم شيئاً منها كما حرم في شرع غيره وحرم الخبائث لم يحل منها شيئاً كما استحله غيره.
وجمَعَ محاسن ما عَلَيْهِ الأمم فلا يذكر في التوراة والإنجيل والزبور نوع من الخبر عن الله وعن ملائكته وعن الْيَوْم الآخر إلا وقَدْ جَاءَ به علي أكمل وجه وأخبر بأشياء لَيْسَتْ في هذه الكتب.
وأمته أكمل الأمم في كُلّ فضيلة فإذا قيس علمهم بعلم سائر الأمم ظهر فضل علمهم وإن قيس دينهم وعبادتهم وطاعتهم لله بغيرهم ظهر أنهم أدين من غيرهم وإذا قيس شجاعتهم وجهادهم وصبرهم علي المكاره في ذات الله ظهر أنهم أعظم جهاداً وأشجع قلوباً وهذه الفضائل به نالوها ومنه تعلموها وَهُوَ الَّذِي أمرهم بها اهـ.
وَقَالَ آخر:
اعْلم أن من شاهد أحواله صلى الله عليه وسلم وأصغى إلى سماع أخباره المشتملة على أخلاقه وأفعاله وأحواله وعاداته وسجاياه وسياسته لأصناف الخلق وهدايته إلى ضبطهم وتألفه أصناف الخلق وقوده إياهم إلى طاعته.
مَعَ ما يحكي من عجائب أجوبته في مضائق الأسئلة وبدائع تدبيراته في مصالح الخلق ومحاسن إشاراته في تفصيل ظاهر الشرع التي يعجز الْفُقَهَاء والعقلاء عن إدراك أوائل دقائقها في طول أعمارهم لم يبق له ريب ولا شك في أن ذَلِكَ لم يكن مكتسباً بحيلة تَقُوم بها القوة البشرية.
بل لا يتصور ذَلِكَ إلا بالاستمداد من تأييد سماوي وقوة إلهية وأن ذَلِكَ كله لا يتصور لكذب ولا ملبس بل كانت شمائله وأحواله شواهد قاطعه بصدقه حتي أن العرَبيَّ القُحَّ كَانَ يراه فَيَقُولُ: وَاللهِ ما هَذَا وجه كذاب.
فكَانَ يشهد له بالصدق بمجرد رؤيته لشمائله فَكَيْفَ من شاهد أخلاقه ومارس أحواله في جَمِيع مصادره وموارده اهـ.
وَقَالَ حسان يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بِطَيْبَةَ رَسْمٍ للرَّسُوْلِ وَمَعْهَدُ ** مُنِيْرٌ وَقَدْ تَعْفُو الرُّسُوْمُ وتَهْمُدُ

وَلاَ تَنْمَحِيْ الآيَاتُ مِنْ دَارِ حُرْمَةٍ ** بِهَا مِنْبَرُ الهادِيْ الَّذِِي كَانَ يَصْعَدُ

وَوَاضِحُ آياتٍ وَبَاقِي مَعَالِمٍ ** وَرَبْعٌ لَهْ فِيها مُصَلَّى ومَسْجِدُ

بِهَا حُجُرَاتٌ كَانَ يَنْزِلُ وَسْطَهَا ** مِنَ اللهِ نُوْرٌ يُسْتَضَاءُ وَيُوْقَدُ

مَعَالِمُ لم تُطْمَسْ عَلَى العَهْدِ آيُهَا ** أتَاهَا البِلَى فَالآيُ مِنْهَا تَجْدَّدُ

عَرَفْتُ بِهَا رَسْمَ الرَّسُوْلِ وعَهْدَهُ ** وَقَبْراً بِهِ وَارَاهُ فِي التُّرْبِ مَلْحَدُ

وَهَلْ عَدَلَتْ يَوْماً رَزِيَّةٌ هَالِكٍ ** رَزِيّةَ يَوْمٍ مَاتَ فِيه مُحَمَّد

تَقَطَّعَ فِيه مَنْزِلُ الوَحْي عنهُمُ ** وَقَدْ كَانَ ذَا نُوْرٍ يَغُورُ ويُنْجِدُ

يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَنِ مَنْ يَقْتَدِيْ بِهِ ** وَيُنْقِذُ مِنْ هَوْلِ الخَزَايَا ويُرْشِدُ

إِمَامٌ لَهُمْ يَهْدِيْهُمُ الحَقَّ جَاهِداً ** مُعَلِمُ صِدْقٍ إِنْ يُطِيْعُوهُ يَسْعَدُوا

عَفُوٌ عنِ الزَّلاَّتِ يَقْبَلُ عُذْرَهُمْ ** وأنْ يُحْسِنُوا فَاللهُ بالْخَيْرِ أَجْوَدُ

فَبَيْنَاهُمُوْا فِي نِعْمَةِ اللهِ بَيْنَهُمْ ** دَلِيْلٌ بِهِ نَهْجُ الطَّرِيْقَةِ يُقْصَدُ

عَزِيْزٌ عَلَيْهِ أَنْ يَحِيْدُوْا عن الهُدَى ** حَرِيْصٌ عَلَى أَنْ يَسْتَقِيْمُوْا وَيَهْتَدُوْا

عَطُوفٌ عَلَيْهِمْ لاَ يُثَنِّيْ جَنَاحَهُ ** إِلى كَنَفٍ يَحْنُوْ عَلَيْهِمْ وَيَمْهَدُ

فَبَيْنَاهُمُوْا فِي ذَلِكَ النُّوْرِ إِذْ غَدَى ** إِلى نُورِهِمْ سَهْمٌ مِنَ المَوْتِ مُقْصِدُ

فَأَصْبَحَ مَحْمُوْداً إِلى اللهِ رَاجِعاً ** يُبَكِّيْهِ جَفْنُ المُرْسَلاتِ ويَحْمَدُ

وأَمْسَتْ بِلاَدُ الحُرْمِ وَحْشاً بِقَاعُهَا ** لِغَيْبَةِ مَا كانت مِنْ الوَحْي تَعْهَدُ

قِفَاراً سِوَى مَعْمُوْرَةِ اللَّحْدِ ضَافَهَا ** فَقِيْدٌ يُبَكِّيْهِ بِلاَطٌ وغَرْقَدُ

ومَسْجِدُهُ فَالمُوحِشَاتُ لِفْقْدِهِ ** خَلاَءٌ لَهُ فِيه مَقَامٌ وَمَقْعَدُ

فَبَكّىْ رَسُوْلَ اللهِ يَا عَيْنُ عَبْرَةً ** وَلاَ أعْرِفَنّكَ الدَّهْرَ دَمْعُكِ يَجْمُدُ

وَمَا لَكِ لاَ تَبْكِيْنَ ذَا النِّعْمَةِ الَّتِيْ ** عَلَى النَّاسِ مِنْهَا سَابِغٌ يَتَغَمَّدُ

فَجُوْدِيْ عَلَيْهِ بالدُّمُوْعِ وأعْولِي ** لِفَقْدِ الَّذِي لاَ مِثْلَهُ الدَّهْرُ يُوْجَدُ

وَمَا فَقَدْ المَاضُوْنَ مِثْلَ مُحَمَّدٍ ** وَلاَ مِثْلَهُ حَتَّى القِيَامَةَ يُفْقَدُ

أَعَفَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً بَعْدَ ذِمَّةٍ ** وَأَقْرَبَ مِنْهُ نَائِلاً لاَ يُنَكَّدُ

وأَبْذَلَ مِنْهُ لِلطَّرِيْفِ وتَالِدٍ ** إِذَا ظَنَّ مِعْطَاءٌ بِمَا كَانَ يُتْلَدُ

وَأَكْرَمَ حَيّاً فِي البُيُوْتِ إِذَا انْتَمَى ** وَأَكْرَمَ جَداً أبْطَحِيّاً يُسَوَّدُ

وأَمْنَعَ ذِرْوَاتٍ وأَثْبَتَ فِي العُلَى ** دَعَائِمَ عِزٍّ شَاهِقَاتٍ تُشَيَّدُ

وأَثْبَتَ فَرْعاً فِي الفُرُوْعِ ومَثْبَتاً ** وعُوْداً غَذَاهُ المُزْنُ فَالعُوْدُ أَغْيَدُ

رَبّاهُ وَلِيْداً فاسْتَتَمَّ تَمَامُهُ ** عَلَى أَكْرَمِ الخَيْرَاتِ رَبٌّ مُمَجَّدُ

تَنَاهَتْ وِصَاتُ المُسْلِمِيْنَ بِكَفِّهِ ** فَلاَ العِلْمُ مَحْبُوسٌ وَلاَ الرَّأْيُ يُفْنَدُ

أَقُوْلُ وَلاَ يُلْفَى لِقَوْلِيَ عَائِبٌ ** مِنَ النَّاسِ إلا عَازِبُ العَقْلِ مُبْعَدُ

ولَيْسَ هَوَائِي نَازِعاً عن ثَنَائِهِ ** لَعَلِّيْ بِهِ فِي جَنَّةِ الخُلْدِ أُخْلَدُ

مَعَ المُصْطَفَى أَرْجُوْ بِذَاكَ جِوَارَهُ ** وفِي نَيْلِ ذَاكَ الْيَوْمِ أسْعَى وَأَجْهَدُ

آخر:
سَأَنْظِمُ مِنْ فَخْرِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ** لآلِيءَ لاَ يَبْلَى جَدِيدُ نِظَامِهَا

تَضَوَّعَ طِيباً عَرْفُهَا فَكَأَنَّهُ ** تَضَوُّعُ أَزْهَارٍ بَدَتْ مِنْ كِمَامِهَا

سَجَايا أَبَتْ إلا السِّمَاكَيْنِ مَنْزِلاً ** فَفَاقَ عَلَى العَلْيَاءِ عِلْقُ مَقَامِهَا

خِلاَلٌ إِذَا لاَحت قباب لدي علا ** تُنيفُ فَتَعْلُوهَا قِبَابُ خِيَامِهَا

إِذَا يَمَّمُوا يَوْماً إِمَامَ مَكَارِمٍ ** فأَحَمَد قَدْ أَضْحَى إِمَامَ إِمَامِهَا

فَكم ذُوْ عُلا أَوْمَا لِدَرْكِ مَقَامِهَا ** فَمَرَّ وَلم يُدْرِكْ مَرَامِي مَرَامِهَا

وَكم ظَامِيءٍ قَدْ رَامَ يُرْوَى بَرِيِّهَا ** فَآبَ وقَدْ أَضْحَى عَليلَ أُوَامِهَا

لِذَاكَ العُلاَ قَلبِي مَشُوقٌ بِحُبِّهِمْ ** وقَدْ شوَقْت نَفْسِي بِطُولِ مُقَامِهَا

فَلِلَّهِ عَيْنٌ لاَ تَمَلُّ بُكَاءَهَا ** وقَدْ حُرِمَتْ فِيه لَذِيذَ مَنَامِهَا

وَنَفْسٌ عَلَى بُعْدِ الدِّيَارِ قَرِيحَةٌ ** تُطَارِحُ فِي البَلْوَى حَمَامَ حِمَامِهَا

وَعُمَرٌ مَضَتْ أَيّامُ شَرْخِ شَبَابِهِ ** وقَدْ قَدَّ صَرْفُ الدَّهْرِ غُصْنَ قَوامِهَا

فَيَا نَسْمَةَ الأسْحَارِ مِنْ نَحْوِ يثْرِبٍ ** أَلِمِّي بنَفْسٍ قَدْ ذَوَتْ بضِرامِهِا

وَيَا حَادِيَ الأظْعَانِ نَحْوَ قِبَابِهِمْ ** إلا فَاخْصُصِ العَلْيَا بِطِيبِ سَلاَمِهَا

اللَّهُمَّ توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.